النّظرية السّلوكية: (behaviourisme)
يعتبر
السلوكيون أن اكتساب اللغة عند الطفل لا فرق بينها وبين أي سلوك آخر, لأن اللغة
عندهم شكل من أشكال السلوك. ويدور محتوى النظرية السلوكية حول أن السلوك اللغوي
عبارة عن مجموعة من الاستجابات الناتجة عن مثيرات للمحيط الخارجي, مختلفة من حيث
أنواعها بين أن تكون المثيرات طبيعية أو اجتماعية أو غيرها, حاضرا فعلا أو غائبا
خارجيا أو داخليا. وهذا السلوك اللغوي هو الناتج عن تلك الاستجابة لمثير محدد,
فإذا تعززت تلك الاستجابة بالتكرار والإعادة, تحولت إلى عادة لغوية راسخة يتعامل
بها الطفل بتلقائية, وتصبح ضمن سلوكه اللغوي. وفحوى هذه المصطلحات الأساسية
المشكلة لهذه النظرية هي كالآتي:
المثير:
كل عمل مادي أو معنوي داخلي في الإنسان أو خارجي يؤثر في الإنسان ويدفعه إلى
التصرف بشكل من الأشكال, وهو عند هاريمان بأنّه أي صورة للطاقة تنتج استجابة، أو
أي طاقة خارجية بالنّسبة لعضو الاستقبال تؤثر عليه وتستثيره. ويعرّفه سكينر على
أنه نوع من الأحداث البيئية التي لا يمكن تحديدها منفصلة عن ملاحظات أسلوب معيّن
من أساليب الكائن الحي. وليس غريبا على أن حياة الإنسان مليئة بالمثيرات الداخلية
والخارجية التي يتفاعل معها بشكل إيجابي, فتحمله على التصرف بصورة من الصور.
أما الاستجابة: فهي ردة الفعل الناتج عن المثير كفعل
طبيعي يتصف به الكائن الحي, أي طريقة التفاعل الإيجابي مع المثير الحاصل عند
الإنسان, وتعرّف الاستجابة تعريفا بيولوجيا بأنّها: تقلّص عضلي أو إفراز غدّي (من
الغدد) أو أي نشاط آخر ينتج عنه استثارة.
أما التّعزيز أو التّدعيم (renforcement) فهو القصد إلى تقوية الاستجابة
وتأكيدها بشكل تصبح مؤسسة عند الإنسان, عملا على ترسيخها لتكون عادة كلامية راسخة.
وهو العلاقة القائمة بين حدثين هما المثير والاستجابة، وما يتبعها من أحداث
ومؤثرات، وكلّما زاد احتمال ظهور الاستجابة تسمّى العلاقة بين هذه العوامل تعزيزا.
وعلى المستوى البيداغوجي، فالتّعزيز هو المكافأة والتّشجيعات التّي تقدّم للمتعلّم
كلّما أبدى سلوكا مرغوبا فيه.
والتّعزيز نوعان: إيجابي:
يتمثّل في تقوية وتدعيم الاستجابة الصادرة عن المتعلم, وذلك عندما تكون استجابته
استجابة صحيحة مطلوبة. أما السلبي: فيرتبط بإيقاف وإزالة ما ورد عن المتعلم من استجابة
ولكنها خاطئة. لذلك تقوم النظرية السلوكية على هذا الثلاثي المتلازم, المثير
فالاستجابة أولا, ثم التعزيز حرصا على ترسيخ الحدث وتفعيله أكثر ليصبح عادة كلامية
بعد ذلك.
وقد تزعم هذه النظرية بشكل كبير
مجموعة من اللسانيين والنفسانيين, ونخص بالذكر, بلومفيلد الأمريكي, وواطسن,
وسكينر, وهم الذين أبدوا بآرائهم لتشكيل محاور هذه النظرية وتصبح من أشهر النظريات
في تاريخ التعليمية.
أولا: السّلوكية عند بلومفيلد[1]:
ظهرت النّظرية السّلوكية التي
تزعمها ليونارد بلومفيلد في الثّقافة اللّسانية الأمريكية منذ أن ظهر كتابه"
اللّغة" (le langage) إلى الوجود عام 1933. وهو الكتاب الذّي
هيّأ للدّراسات الأمريكية منهجيا لقبول مبدأ التّوأمة بين علم النّفس السّلوكي
واللّسانيات، وهي الجهود التّي قام بها بلومفيلد من أجل هذا الغرض، فبعد أن استلهم
المعطيات النّظرية لعلم النّفس السّلوكي الذّي كان سائدا آنذاك في مجالات العطاء
الفكري الإنساني، أسقطها على المنهج الوصفي اللّساني، ممّا أدّى إلى ظهور نظرية
لسانية متكاملة، ولذلك ينظر إليها على أنها نظرية آلية للغة. وتُعرّف بأنّها:
نظرية نفسية أثّرت بشكل حاسم في السّلوكية المعاصرة؛ حيث يكون هناك سلوك يُبنى على
تعزيزات، أي هناك ما يسمّى بـ: الإجراء والإشراط الإجرائي والتّعزيز والعقاب[2].
يستعين
بلومفيلد في هذه النظرية بقصة جاك وجيل تلك القصة التي تحمل رؤية كاملة لقضايا
السلوكية من المثير إلى الاستجابة. وملخص القصة أن جيل شعرت بالجوع فرأت التفاحة
فطلبت الأكل ثم حصل القفز على التفاحة وتحقق الهدف. والمتأمل لهذه القصة يجد أنها
تحمل أحداثا قبل عملية الكلام, تتمثل في الإحساس بالجوع ورؤية التفاحة, وهذا يمثل
الحافز أو المثير. ثم يحدث التكلم كاستجابة للمثير السابق وذلك عندما طلبت
التفاحة. لهذا يرى بلومفيلد أن عملية التكلم عند الإنسان تخضع للحافز فتحدث
الاستجابة.
لقد
تطوّرت النّظرية اللّسانية السّلوكية، وأخذت مسارها الطّبيعي في الوصف الّلساني
على يدّ اللّساني الأمريكي بلومفيلد ، الذي كان جادّا في تطبيقها، ومتهيّئا
لنتائجها، وانعكاساتها على وصف بنية النّظام اللّساني، وتفسيرها تفسيرا آليا[3]. إذن فاقتحمت
النّظرية اللّسانية السّلوكية الميدان اللّساني، وأضفت عليه طابعها الخاص، فأمست
الأشكال اللّغوية تحلّل كما هي في الواقع اللّغوي، دون أي اعتبار للبنية الضّمنية
المتوارية خلف البنية الظّاهرة[4].
ثانيا: السّلوكية عند واطسون:
تعرف النّظرية السّلوكية, بأنها مدرسة
نفسيّة من مدارس علم النّفس التّجريبي, تقوم على فكرة جوهرية تتمثّل في أنّ علم
النّفس لا يمكنه الارتقاء إلى مستوى العلم الحقيقي إلا إذا تبنّى المنهج المعتمد
في العلوم الطّبيعيّة، ولا يمكن اعتماد هذا المنهج إلا إذا كان موضوعه قابلا للملاحظة
والتّجريب. وقد نشر واطسون في أبحاثه الأولية المبادئ التي يؤمن بتا في هذا المجال
وبين ضرورة حصر علم النفس التجريبي في دراسة السلوك الملاحظ المباشر الظاهر. ووجوب
التّخلّي في دراسة السّلوك عن الاهتمام بشعور الإنسان وما يجري في داخل نفسه
وعقله. ولا يعني ذلك أنّ السّلوكيّين ينكرون وجود الوعي والشّعور، لأن ذلك غير
ممكن بحال من الأحوال, ولا يمكن لهم التفكير في ذلك, ولكنّهم يرون أن العقل
والمشاعر لا يمكن لهم ملاحظتها ولا قياسها لأنها غير ملاحظة, وعليه يرون أنه من
الممكن الاعتماد على شيء غير ملاحظ علميا حسب زعمهم. وحجّتهم في ذلك أنّ الشّيء
الموضوعي الذّي يمكن ملاحظته ودراسته وقياسه إنّما هو السّلوك والتّصرف الموضوعي.
ذلك السّلوك الذي يمكن إخضاعه للملاحظة مثلما يجري في حينه، ويمكن قياسه من حيث
الزمن الذّي يستغرق أداؤه. وتحليله إلى أجزاء متعدّدة، وتعديله أو تغييره، وضبط
الشّروط التّي تؤدّي إلى ظهوره، ومن ثمّة التّحكم في هذا الظهور نفسه، من خلال
تفسير شروطه. أمّا ما يجري داخل نفس الإنسان وما يشعر به فأمر شخصي بحت لا يخضع
للملاحظة العلمية، ولا ينطبق عليه قياس. وقد بدأ السّلوكيون بدراسة السّلوك
الحيواني، وذلك لإيمانهم بأنّ الفرق بين الإنسان والحيوان هو فرق في الدرجة، لا
فرق في النّوع. وتبيّن
للسّلوكيين من دراستهم أنّ السّلوك يتلخّص في المبدأ المعروف: مثير- استجابة. أي
أنّ السلوك إنّما يكون استجابة لمثير أو منبه يقع على مناطق إحساس الكائن الحي،
ثمّ ينتقل إلى الأطراف العصبية للمخ، وينتهي الأمر باستجابة معينة.[5]
فمن أين استمد واطسون نظريته هذه؟
لقد
استمد واطسون هذه الرؤية من نظرية التعّلّم بالفعل المنعكس الشّرطي لبافلوف[6] الذي كان منشغلا
بدراسة عملية الهضم عند الكلاب الجائعة لغرض علمي بحت، انتبه إلى ظاهرة تابعة
أثارت اهتمامه وهي لعاب الكلاب عند رؤيتها الطّعام، أو رؤيتها للشّخص الذّي يطعمها
عادة، وقد يسيل اللّعاب أحيانا بمجرد سماع حركة ذلك الشّخص الذّي يطعمها عادة عن
بعد. اهتمّ بافلوف منذ الانتباه إلى هذه الظّاهرة، لرصد هذه الظّاهرة، وكان ذلك
بالعمل الآتي:
قام بتقديم الطّعام للكلب كالعادة، ولكن هذه
المرّة بمثير مصاحب خارج عن الطّعام نفسه، ولم يكن الكلب قد ألفه من قبل، وهذا
المثير الجديد هو قرع الجرس أثناء تقديم الطّعام. لم يستجب الكلب في البداية لهذا
المثير الجديد ولكنّه بعد تكرار التّجربة من عشرين إلى أربعين مرّة، أصبح هذا
المثير قادرا على إحداث الاستجابة المتمثلة في سيلان اللّعاب، حتّى وإن كان غير
مقترن بإحضار الطّعام. ويفسّر بافلوف عملية التّعلّم تفسيرا فسيولوجيا على أساس
تكوين ارتباطات عصبية دقيقة بين الأذن والطّعام. فالعملية تبدأ بإثارة الحواس ثمّ
تنتقل بواسطة الألياف العصبية إلى المراكز العصبية، وتنتهي بالتّقلص وإفراز الغدد[7]. سمّى بافلوف الجرس
في هذه الحالة بالمثير الشرطي، والطّعام بالمثير الطّبيعي أو المثير غير الشّرطي،
وسمّى سيلان اللّعاب بالفعل المنعكس الشّرطي (الاستجابة). وهو اقتران حدوث المثير
الأصلي بمثير آخر عن طريق التّجربة المتكررة عدّة مرات، فيكتسب المثير الجديد صفة
المثير الأصلي وينوب عنه في إحداث الاستجابة، وهذا النّوع من الاكتساب أبسط أنواع
التّعلّم عند الكائن الحي.[8]
ثالثا: السلوكية عند سكينر: (skinner )
تعرف نظرية سكينر في هذا المجال بالتّعلّم
بالإشراط الإجرائي, حيث قدم سكينر رؤية واضحة لعملية اكتساب اللغة عند الطفل,
تتمركز حول نقطتين هما:
- أن اللغة مهارة كغيرها من
المهارات تنمو عند الطفل.
- وأن هذه المهارة (اللغة) تتعزز
بالمكافأة والتأييد والقبول.
ففي منظور النّظرية السّلوكية عملية ناجمة عن
التّفاعل بين الكائن الحي والمحيط، فالمحيط يتضمّن العديد من المثيرات التّي
تتطلّب من الكائن الحيّ استجابات معيّنة، ويمكن أن يتكرّر حدوث هذه الاستجابات إذا
لقيت تدعيما خارجيا، وفي هذا الإطار تندرج نظرية سكينر, فالمحيط يمثّل في نظريته
مكانة بارزة، ولكنّه يؤكّد في الوقت نفسه على أهمية العوامل الوراثية التّي تتوفّر
في الكائن الحيّ منذ ولادته.[9] ويقصد بالاشتراط الإجرائي عمليّة
التّعلّم التّي تصبح فيها الاستجابة أكثر احتمالا للحدوث، ومصطلح "إجرائي"
يستخدمه سكينر لـوصف مجموعة من الاستجابات أو الأفعال التّي يتألّف منها العمل
الذّي يقوم به الكائن الحي، مثل رفع اليدّ، الكتابة، الشّرب[10].
أسسها العلمية ومرجعيّتها الفلسفية:
من
خلال ما عرضناه آنفا, ترتكز هذه النّظرية على جملة من الأسس العلمية، منها:
01 - استبعاد الجوانب الذّهنية مثل العقل،
والتّصور والفكرة، ودحض كلّ تحليل يعوّل على الاستبطان، وإبراز ما يمكن ملاحظته
ملاحظة مباشرة بالاعتماد على السّلوك الظّاهري دون سواه. وحين تطبيق هذا المنهج
على الظّاهرة اللّغوية ينصّب التّحليل على الأشكال اللّغوية الظّاهرة، والمواقف
المباشرة التي أدّت إلى إنتاجها في الواقع اللّغوي.
02- استبعاد دور الدّوافع والقدرات
الفطرية في الظّواهر السّلوكية، وإعطاء أهمية قصوى لعملية التّعلّم في اكتساب
النّماذج السّلوكية.
03- التركيز على الملاحظات والسلوكات
المباشرة للسلوك الظاهر, وذلك لأنهم يعتمدون التجريبيّة, وهي اتجاه شاع في دراسة
العلوم الطبيعية، ويعتبر أنّ كلّ معرفة حتّى تكون عملية يجب أن تخضع إلى إجراءات
المنهج العلمي، وعلى رأس هذه الإجراءات التّجربة. لذلك يرون أن التّواصل اللّغوي
يعد نوعا من الاستجابات لمثيرات ما تقدّمها البيئة أو المحيط. وبناء على هذه الأسس
فالمتكلّم في نظر بلومفيلد وأتباعه حين أدائه الفعلي للكلام، يكون قد قام
باستجابات نطقية لمثيرات ما تخضع خضوعا مطلقا لحافز البيئة، دون أن ترتبط هذه
الاستجابات بأدنى قدر من التّفكير، لأنّ الاستجابة الكلامية مرتبطة بصورة مباشرة
بالحافز، ولا تتطلّب تدخل الأفكار، وذلك لأنّ اللّغة في نظرهم لا تعدو أن تكون
عادات صوتية يكيّفها حافز البيئة. ترتكز المعطيات
العلمية للتفسير السّلوكي على التّجارب المخبرية التّي أجريت على الحيوانات.
والنّتائج المحصّل عليها في هذا المجال، جعلت السّلوكيين يعمّمونها على المظاهر
السّلوكية لدى الإنسان، فتبدو اللّغة وفق هذا المنظور سلسلة من الاستجابات
المتتالية.[11]
04- الفلسفة الوضعية (positivisme): هي مذهب فلسفي يعنى بالظواهر اليقينية،
ويرفض كلّ تفكير تجريدي في الأسباب المطلقة، أي أنّ هذه الفلسفة لا تسلّم إلا بما
هو مرئي تجريبي، وتنفي صفة العلمية عمّا
سوى ذلك.[12]
05- البراجماتية (النّفعيّة): (pragmatisme ) هي مبدأ من المبادئ التّي تشبّعت به
الثّقافة الأنجلوسكسونية وأثّر في فكر وسلوك الأمريكيين[13].
السّلوكية وتعليميّة اللّغة
ينظر السّلوكيون إلى اللّغة وإلى
تعلّمها وعلى رأسهم ليونارد بلومفيلد بأن عملية اكتساب اللّغة تندرج ضمن إطار
نظرية التّعلم. فاللّغة في منظورهم شكل من أشكال السّلوك الإنساني، ولذلك فإنّهم
لا يقرّون بوجود أي تباين بين مسار تعلّمها وتعلّم أي مهارة أو خبرة أو سلوك آخر.
وبناء على الثلاثي الذي وضعه السلوكيون لهذه النظرية, والمتمثل في : المثير
والاستجابة والتعزيز, يفسرون من خلاله العمليات التعليمية, فكل ما يقوم به المعلم
إزاء التلميذ ويوجهه إليه, يعد مثيرا, فالسؤال الذي يطرحه المعلم, والصورة التي
يظهرها على اللوح, تمثل مثيرات لأنها تدفع التلميذ للتكلم, لذلك فإجابة التلميذ عن
السؤال, وتعليقه عن الصورة, تعد استجابات, وتعليق المعلم على تلك الإجابات تعد
تعزيزا إيجابيا أو سلبيا. فإذا كانت الإجابات صحيحة يعمد المعلم إلى تدعيمها
والتعقيب عليها بالقبول والشكر والتأييد, وإذا كانت خاطئة يعمل المعلم على توقيفها
أو إزالتها, وذلك هو التعزيز السلبي.
والأسس التّي قامت عليها عملية
تعلّم معنى اللّفظ، قد ظهرت في نظرية التّعلّم بالمنعكس الشرطي من حيث الاقتران
التكراري بين مثيرين لصدور استجابة ما. أي أنّ المثيرات اللّفظيّة (أصوات كلامية)
تقترن مع مثيرات شيئية اقترانا منظّما متكرّرا، ومن ذلك مثلا كأن تحمل الأم مثال
ذلك: حينما تقول الأم لطفلها كلمة (كرة) مرات عديدة في اللّحظة التّي يتطلّع فيها
إلى المثير الشّيئي نفسه وهو الكرة،[14] فالمثير الأوّل مثير شرطي، والثّاني
مثير طبيعي، والاستجابة الشّرطية تتمثّل في دلالة اللّفظ المكتسب، بحيث كلّما يلفظ
لفظ كرة, يستجيب له ويفهمه دون إحضار الكرة كشيء. وحينما يسمع الطّفل مثيرا
معيّنا، وليكن كلمة(لا) وذلك في اللّحظة التّي يراد فيها حدوث استجابة معيّنة مثل
(سحب اليد)، فالمثير السّمعي (لا) يعتبر مثيرا شرطيّا بالنّسبة لليد المسحوبة.
وتتكرّر حدوث هذه العملية عدّة مرّات، حيث يسمع الطّفل أوّلا كلمة (لا) تعقبها
مباشرة (الضّربة على اليد) وسحب اليد، وذلك بعد اقتران كلمة (لا) عددا من المرّات
مع الضّربة على اليد، وفي هذه الحالة، تنشأ علاقة إشراطية بين المثير الشّرطي (لا)
والاستجابة الشّرطية (سحب اليد)، وهكذا ينشأ ويتكوّن المنعكس الشّرطي.[15]
أما
ما يتعلق بنظرية سكينر في السّلوك الكّلامي فترجع إلى نظريته العّامة. فإذا قال
الطّفل: "(أريد ماءً)، ويقدّم له الماء، فإنّ هذا السّلوك يتعزّز ويصير
إشراطيًا بالتّكرار. ويرى سكينر بأنّ السّلوك اللّغوي مثل أي سلوك آخر، يمكن
التّحكّم في نتائجه، فهو يتعزّز حين تكون النّتيجة مكافأة، وينطفئ إذا كانت
النّتيجة عقابا. وبعبارة أخرى، فإنّ احتمال وقوع السّلوك الإجرائي مرتبط بما
يسمّيه سكينر بالإشراط الفعّال أو الإجرائي. وكلّما عزّز السّلوك الإجرائي كلّما
صارت احتمالات وقوعه مستقبلا كبيرة. من هذا المنطلق يرى سكينر أنّ السّلوك اللّغوي
المكتسب هو نتيجة تفاعل ثلاثة عناصر: تنبيه, استجابة, تثبيت[16]. ومن هنا نصل إلى
أنّ اللّغة تكتسب في إطار النّظرية السّلوكية بالطريقة نفسها التّي تكتسب بها بقية
الاستجابات الأخرى غير اللّغوية، وذلك بالمثيرات، والمحاكاة، والتّكرار، والإشراط،
والتّعزيز. وبصورة عامّة فليس هناك، في نظرهم، فرق بين تعلّم اللّغة وبين أي شكل
آخر من أشكال التّعلّم.[17]
خلاصة هذه النظرية يمكن إجمالها في
النقاط التالية:
من
خلال هذه الاستفاضة للآراء المتتابعة والمتكاملة بين زعماء هذه النظرية يمكن
الوصول إلى ما يلي:
- أولا: إن المعلم هو السند الحقيقي والركن الأساس,
لذلك فهو يحتل المكانة المرموقة في العملية التعليمية, وهو محورها. ويتمثل دوره في
تهيئة بيئة التّعلّم لتشجيع الطّلاب لتعلّم السلوك المرغوب, ويعمل على تعزيزه. أما المتعلّم
فتُظهِره
النّظرية السّلوكية بطابع المستجيب للمؤثرات, فالمتعلم
في نظرهم خزان ينبغي أن يملأ ويعزز. والتّعلّم يرتبط
بالتّغير في سلوك المتعلّم, وبالسّلوك
الظّاهر له.
ومن خلال هذا المبدأ الأساس, تتجلى بقية المرتكزات الأخرى المكملة والتالية لما
سبق.
ومن ذلك:
ثانيا: ليس هناك فرق عند السلوكيين بين تعلم
اللغة وتعلم شيء أخر لأنهم لا يتصورون أي موهبة داخلية عند الإنسان سوى أن الإنسان
يمتلك القدرة على تعلم اللغة, لذلك ما يسمعه المتعلم هو ما يتعلمه. فاللّغة في نظر
السّلوكيين لا تعدو أن تكون عادات صوتية يكيّفها حافز البيئة.
ثالثا: التعزيز عند
السلوكيين غير كاف لوحده, إذ لا بد له من التكرار والممارسة الفعلية للغة,
فالتكرار وحده أمام المتعلم غير كاف للتعلم بل ينبغي على المتعلم أن يمارس بنفسه
اللغة. لذلك يرون
أن التّدريب ينبغي أن يكون على الدّوام كهدف وكوسيلة أساسية في الآن نفسه لتحقيق
إتقان الموضوع المطلوب تعلّمه. ويرون أن الكلام والمشافهة هو
ركيزة التعلم الايجابي, لأن
الطفل بدأ الكلام في لغته الأم قبل أن يبدأ تعلم
الكتابة, لذلك فالكلام أولا في المقام الأول ثم الكتابة ثانيا.
رابعا: لا حرج عند السلوكيين
أن يقولوا بعدم وجود العقل في العملية التعليمية عند الإنسان لأنه غير ملموس, ولا
يمكن تحديده أو الإشارة إليه لذلك فالتعلم عملية آلية تختص بتكوين عادات لغوية
يكتسبها المتعلم. والكلام نشاط حركي فقط. ويتلخّص السّلوك في المبدأ المعروف:
مثير- استجابة - تعزيز.
خامسا: المنهاج ينبغي أن
يكون وضحا متمثلا في وثيقة رسمية كالكتاب المدرسي مثلا.
سادسا:
التقويم يقوم على كمية المعلومات والاستجابات الحاصلة.
وختاما نقول بأنه على الرّغم من هذه
التّفسيرات لعملية اكتساب اللّغة في إطار النظرية السّلوكية، فإنّ النّظرية
اللّسانية السّلوكية تظل تفسيراتها أعجز من أن تقنع الدارسين ببساطة هذا التحليل
وسذاجته. وتبقى شروحاتها عاجزة عن توضيح العديد من جوانب اللّغة العملية،
والخلفيات الفكرية, فاللغة ظاهرة معجزة أكبر بكثير مما تصوره السلوكين, وأعقد مما
ذكروه. فعلم النّفس السّلوكي يبدأ في فهم
معجزة اكتساب اللّغة بتأكيده على المنهج العلمي وعلى الملاحظة التّجريبية، ويغالي
في ذلك مغالاة غير مقبولة عمليا, بحكم أن الملاحظة والمباشرة وكذا الموضوعية التي
يتسم بتا البحث العلمي, انطلاقا من أن اللسانيات تدرس اللغة دراسة علمية, لا يمكن
فهمها كما تفهم الموضوعية في العلوم الطبيعية. بل إن للعلوم الإنسانية خصائصها
التي تميزها عن العلوم الطبيعية. لذلك وقف السلوكيين موقفا حائرا ولم يفسروا
الظاهرة تفسيرا علميا مقبولا. ولهذا قوبلت النّظرية
السّلوكية بالكثير من الانتقادات الموضوعية المؤسسة، خصوصا تلك التّي قدّمها
تشومسكي، الذّي رأى بأنّها قائمة على اعتقادات أوليّة، وأنها قدمت تفسيرا لا يرقى
إلى مستوى تعقيد الظاهرة اللغوية "وأنّ الفرضيات التّجريبية التّي سيطرت على
دراسة اكتساب المعرفة طيلة سنين عديدة، قد تبنّاها البعض دون تبرير، وأنّه لا
مكانة لها ضمن الإمكانات المتعدّدة التّي يمكن تصوّرها فيما يتعلّق بكيفية عمل
الفكر."[18]. وبهذا اعتبرت النّظرية السّلوكية
عاجزة عن تفسير عملية اكتساب مفردات اللّغة وجملها على حدٍّ سواء. ففيما
يتعلّق بالمفردات مثلا،
فإنّ
عملية الفهم تسبق عملية التّفكير، أي أنّ الطّفل يفهم معنى الكثير من المفردات قبل
أن يتلفّظ بها، ممّا يؤكّد أنّه اكتسب هذه المفردات أو العبارات فهما دون تدعيم،
وهذا لا يعني أنّ التّدعيم لا قيمة له في تعلّم اللّغة.
-
كثيرا ما يكون تقليد الطّفل للكبار غير مطابق لما يسمعه، ومع هذا يهلّل الكبار له،
وقد يأخذون حتّى في استعمال المفردة التّي يستعملها هو، ورغم هذا فإنّه يتخلّى
تدريجيا عن اللّفظة المدعّمة التّي سمعها واستعملها طويلا، ويتحوّل إلى استعمال
لفظة الكبار .
-
إنّ المفردات التّي يمكن للطّفل أن يتعلّمها عن طريق الربط بين الدّال والمدلول،
هي المفردات الدّالة على الأشياء المحسوسة، فكيف يمكن في ضوء هذه النّظرية، تفسير
تعلّم الطّفل للعديد من المفردات ذات المعاني المجردة, حيث يسمع
الطّفل مفردات كثيرة، خاصة الوظيفيّة منها كـ (الذّي) أو(إذا) دون أن يتعلّمها،
لعدم إدراكه المفاهيم التّي تعبّر عنها، وهوأمر لا تفسير له في إطار هذه النّظرية. من
هنا، يمكن القول أنّ التّفسير السّلوكي للدّلالة اللّسانية قد يكون ناجعا إلى حدٍّ
ما في تفسير بعض الكلمات ذات الإحالات المحسوسة، التّي يمكن أن تعاين في الواقع
اللّغوي بناء على مظاهرها الفيزيائية المميّزة. لكن على الرّغم من ذلك سيظلّ هذا
التّحليل محدودا، بحيث لا ينطبق على الجانب الأعظم من الكلمات اللّغويّة[19].
أما من
الناحية السياسية والاجتماعية, فقد انتقدت السلوكية انتقادا لاذعا, فالقول بأن
الطفل يولد صفحة بيضاء, أمر غير مسلم. فمهما بدا أن الطفل يخضع لمؤثرات المجتمع
إلا أنه ليس صفحة بيضاء, فما يصدر من الطفل بسرعة فائقة وبعد عدد من الأشهر بعد
الولادة لا ينم مطلقا على أنه ولد وهو لا يملك شيئا. ولو كان الأمر كذلك كما تنص
على ذلك السلوكية فإن القائمين على أمور المجتمع والقيمين عليه يستطيعون التصرف في
حياة الأفراد كما يشاءون ويصنعونه بالطريقة التي يريدون بحكم أنه بين أيديهم
كالعجين يشكلونه بالطريقة التي يحددونها, وأمر كهذا لو كان حقيقة لكانت حرية
الإنسان في خطر ولما كان مسئولا عن نفسه لأنه لا يتصرف بالمطلق في حياته.[20]
إن
وصف الإنسان بالصورة التي يذكرها السلوكيون لا تتماشى والواقع الإنساني عبر مسيرة
الحياة البشرية, فلو كان الإنسان لا يتعلم إلا يسمع ولا يعرف إلا ما يعلم, ويظل
خاضعا للمؤثرات فقط دون غير, لا يمكن بحال أن يصل إلى التطور الذي وصله اليوم.
فحياة الإنسان الزاخرة بشتى المخترعات وبأنواع التفكير تنبئ أنه يملك قوة أخرى فوق
ما يسمع وما يتعلم لإدارة حياته بنفسه واستقلاله بتفكيره. بل إن الأساليب اللغوية
المتعددة التي يبدعها الشعراء والكتاب لدليل على أن للإنسان قدرات لغوية معينة
وغير محدودة تنبئ عن وجود طاقة عقلية يستخدمها الإنسان في هذا المجال. ومن ناحية
أخرى يرى تشومسكي أن مسألة المثير والاستجابة وعملية التعزيز غير واضحة بصورة
علمية وافية, خصوصا عندما يكون داخليا, وهم حينها يناقضون أنفهم بهذا القول بعتبار
أنهم يؤمنون بما يلاحظ, ويستبعدون من نظريتهم ما له علاقة بالمشاعر وبما لايرى على
وجه العموم. ولأن المثير لا يلاحظ إلا عند حدوث الاستجابة. لذلك فالمثير ليس مفهوما
ولا واضحا بصفة موضوعية.
[1]
- يونارد لبلومفيلد ( 1887- 1949 ) باحث
أمريكي من مدين هارفرد, متخصص في اللغة الألمانية التق بعالم النفس ويس فجعله
يراجع أسس مبادئ الألسنية انسجاما مع النظرية السلوكية في علم النفس.
[2]- اللسانيات النشأة والتطور- أحمد مومن، ط/1،
الديوان الوطني للمطبوعات الجامعية، الجزائر، 2002، ص:194
[3] -
معجم علوم التربية، مصطلحات البيداغوجيا
الديداكتيك عبد اللطيف الفارابي، محمد آيت موحى، عبد العزيز الغرضاف، عبد الكريم
غريب -، ج:1، ط:1، المغرب، ص: 100.
[4] -
دراسات في اللسانيات التطبيقية, حقل تعليمية اللغات, أحمد حساني, الديوان الوطني
للمطبوعات الجامعية، الجزائر2000، ص:20.
[5] -
ينظر: دراسات في اللسانيات التطبيقية, أحمد حساني، حقل تعليمية اللغات, ص:90.
[6]
- العالم الفيزيولوجي إيفان بافلوف (ivan pavlov ) 1849-1936، الذي عرف بعطائه الوافر في مجال
حقل العلوم الطبّية والدراسات الفيزيولوجية. وازدادت شهرته بخاصة حين اقترن اسمه
بالمخبر الفيزيولوجي لمعهد الطّب التجّريبي في لينيغراد الذّي كان يديره إلى آخر
حياته، والذّي عكف فيه لمدة 12 سنة لدراسة الغدد الهضمية للكلاب، ونظام أعصابها
وانعكاساتها، وتوّجت أبحاثه بحصوله على جائزة نوبل عام 1904.
[7] -
مباحث في اللّسانيات، أحمد حساني ، ط/1، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1994،
ص:152.
[8] -
دراسات في اللّسانيات التّطبيقية – حقل تعليمية اللّغات أحمد حساني، ص: 56.
[9] - نفسه،
ص:57.
[10] -
ينظر: نظريات التّعلّم وتطبيقاتها
التّربوية، محمد مصطفى زيدان, ص95.
[11] -
دروس في اللسانيات التطبيقية،- صالح بلعيد ط:3، دار هومة للطباعة، الجزائر، 2000،
ص:22.
[12]-
نظريات التعلم وتطبيقاتها التربوية، محمد مصطفى زيدان، الديوان الوطني للمطبوعات
الجامعية، الجزائر، ط1 1983، ص:93.
[13] -
دراسات في اللسانيات التطبيقية –حقل تعليمية اللغات- أحمد حساني ص: 20.
[14]-
ينظر: نظريات التعلم وتطبيقاتها التربوية , محمد مصطفى زيدان، ص:112.
[15] -
التربية وطرق التدريس, صالح عبد العزيز، عبد العزيز عبد المجيد، ج:1، ط:9، دار
المعارف، مصر، 1968، ص:185.
[16]
- دراسات في اللّسانيات التّطبيقية – حقل
تعليمية اللّغات،59.
[17] -
ينظر: نظريات التّعلّم وتطبيقاتها
التّربوية ، ص: 98.
[18] -
اللغات الأجنبية تعليمها وتعلمها, نايف
خرما، على حجاج، ص:59.
[19]- المرجع نفسه ، ص: 60-61 .
[20] -
ينظر في هذا الموضوع إضافات في: مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغات, ميشال
زكريا, ص146
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire